الجمعة , أبريل 26 2024
أخبار عاجلة

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم

بقلم: السيد كاظم الكرزكاني

21/2/2018

    الحمدُ لله الهادي إلى سواء السبيل ، الذي أقام الحجَّة وأوضح البرهان والدليل ، من دون أن يكون له شريك ولا مثيل ، وأفضل الصلاة والسلام على رسوله خير الخلق الهادي إلى أفضل نهج وسبيل ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن تمَّ مدحهم في محكم الذكر والتنزيل وعلى أصحابه المكرمين التابعين لهم والمستحقين لكلِّ إجلال وتبجيل ، أما بعد:.

    جاء في الحديث الوارد عن الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ” رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الدِّينِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ ، وَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ إِلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ” من منطلق الحديث النبوي الشريف نجد أنه يعطي في مفهومه أنَّ التودّد إلى الناس والرحمة بهم مبدأ عظيم وهدف سامٍ تندرج تحته الكثير من المفاهيم والتي منها حُسن الخٌلق وكمال العقل ، فكلّما وجدت الرحمة بين جنبات الإنسان كلّما أحسَّ بعظمة الإحسان الذي يتملكه ، من هنا أوصى الإسلام بوجوب الوفاء واحترام الإنسان لأخيه المسلم وصون كرامته ومشاعره وسمعته ، لأنّ الإسلام نظام اجتماعي كامل في شتى مناحي الحياة ، بل ينظر في حاجات الإنسان بمنظار متساوٍ ، لأجل هذا جعله الله أن يكون المَدرك الأعلى في الحياة الاجتماعية.

    بهذا المنظور ميّز الإسلام بين التراحم المبني على الذوق الجمالي الذي يريد التفوق في جميع المسارات الجمالية التي تغرس الحبَّ وتفجّر الخير وتُنمي الإحسان بين عموم الإنسانية ، وبين الشرِّ الذي يعني الطغيان وعدم قبول الإنسان الآخر ، فكلّما كان الإنسان مرهف الحسّ مثالي النظرة ، كلّما  كان إنسانًا يشعّ منه شعور الرحمة والرقّة ونداوة الطبع وقوة الإحساس ، وهو الشعور الذي يكون لأجل الارتقاء بالحياة الإنسانية إلى أرحب الآفاق وأسماها ، نعم إذا كان الأمر بهذا المفهوم فلا بدّ من الحرص على إبداء الرحمة بين بني الإنسان ، وأن أيّ تفريط فيها وفي أبعادها يُعدّ جريمة بحقها ، لأن من أصول العبادات وآثار العقيدة السليمة هي المحبّة للإنسان لقوله: (صلى الله عليه وآله) “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”.

    والرحمة في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وأنها قد شملت كلّ الوجود الملكوتي ، كما أنها صفة عامرة بكلّ مقاييسها وإشراقاتها ، لهذا عمّت كلّ شعاع المحيط الوجداني لقوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) “غافر آية – 7” بهذا المعنى القرآني ، جُعلت الرحمة أوسع من كلّ شيء ومصدرًا للعفو عن أيّ ذنب يقترفه الإنسان العاصي والمتمرد ، فإذا كان الله يحبّ الرحمة للعباد ، فلم لا يتّبعها الإنسان في مسلك حياته وأن يكون حليمًا في سلوكه وتصرفه ، وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) بالقول: “إن لم تكن حليما فتحلّم بقليل في قولك ، فإنه قلّ من تشبّه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم”.

    هكذا منح الإسلام البشرية بكل ما تحتاجه من القيم لتكون لها القدرة على التأثير في الحياة ، فجعل الرحمة بين الناس من دلائل الإيمان الكامل ، وثروة هائلة مفصّلة بكلّ دقّة ومحدّدة بكلّ إحكامٍ وتكاملٍ شمولي ، لهذا أوجب على الإنسان المسلم أن يكون في قلبه الإجلال والتوقير والعطف المبرور الذي كلّما ترسّخت وشائجه في القلوب خفّت نوازع القسوة ، وكلّما زادت أواصر المحبة والوئام صُبّت في ميزان الوحدة المتماسكة.

    ونحن بصدد هذا المفهوم نجد أن الرحمة هي فيض قرآني وهدية ربانيّة أخذ الله بها على العباد وجعلها من شيم الأوفياء والاتقياء ، ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الحديث: “إذا جمع الله عزّ وجلّ الأولين والآخرين ، قام منادٍ فنادى يُسمع الناس ، فيقول: أين المتحابّون في الله؟ فيقوم عنقٌ من الناس ، فيُقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب ، فتلقّاهم الملائكة ، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب ، فيقولون: فأيُّ ضربٍ أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله ، فيقولون: وأيُّ شيءٍ كانت أعمالُكم؟ فيقولون: كنا نحبّ في الله ، ونبغض في الله ، فيقولون : نِعْمَ أجر العاملين”.

     الرحمة ونقاء الصدر وطهارته معطيات تُعطي دلالة واضحة على صدق الحبّ ، الحبّ المبني على الخير لعموم الناس ، وأنها مفتاح التماسك الذي لا تهزّه العواصف ولا ترجّه الأعاصير ، ولا تؤثر فيه الأحداث والفتن والمحن ، وبها يبتعد المجتمع عن دسائس الصراعات والنزوات والمؤامرات والفتن ، غير أنه عندما تمتلئ القلوب بالحقد والضغينة يتحوّل كيان المجتمع إلى غابة مليئة بالوحوش والذئاب!.

    ومن غايات وأهداف الرحمة التواضع وخفض الجناح ولين الجانب ، وكلّ ذلك له مكانته في المجتمع الإسلامي ، فإذا تخلّق بها المجتمع ساق الله إلى العباد الكثير من النِعم ، لأن طهارة القلب وبراءة النفس تعني الصفاء من حمل الحقد وإضمار الضغينة على المؤمنين ، تعني سلامته من الغلّ والحسد والعداوة ، وهذا ما كان نبيّ الإنسانية (صلى الله عليه وآله) يفعله وهو الإنسان المعصوم ، فهل ينبغي للإنسان العادي وهو صاحب الخطايا والذنوب أن يترفّع عن هذه الصفات ، أليس من الأجمل التآلف بين القلوب لتكون الأمة هي الأنشط لما تفعله من الخير وأن يكون العفو والتسامح من أعظم خصالها وأشرف وصالها منطلقًا من قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) “آل عمران آية 159”.

    والرحمة أيها الأحبّة وكما تقدم ، لها سلوكيات ناصعة تدلّ عليها ، ومن سلوكياتها الإخلاص لله تعالى الذي أراد للإنسان أن يكون له قلبًا سليمًا من الضغائن والأحقاد ، قلبًا بعيدًا عن سوء الظن وبئس السريرة ، ومن سلوكيات الرحمة أن يكون الإنسان ذا قلب سليم كاظمًا للغيض ، عافيًا عن المخطئ ، مؤمنًا صادقًا حزنه في قلبه وبشره في وجهه ، ذو خلقٍ حسنٍ يزرع الطيب في المجتمع ، لأنّ كلّ عمل بني الإنسان زائل إلا العمل الصالح.

    من هنا حثت الشريعة الغرّاء على التخلّق بالرحمة والتحلّي بالخلق الحسن ، ولم تجعله في نطاق ضيّق أو دائرة مغلقة بل جعلته موسعًا ليشمل العديد من الجوانب ، وهذا الحضّ ما جاء به المشَّرع العام للقيادة الكبرى وراسم خريطة الدولة الإسلامية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: “ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” فما أكثر من يبحثون عن مصادر الرحمة وسبلها ويتطلعون جادين إلى التلوّن بها أو بشيء منها مهما بلغ الجهد عندهم لتحصيلها رغم تنوّع ضروبها ، إلا أن مصدرًا واحدًا مهمًا غفلوا عنه رغم سهولته للحصول عليه وهو فقدان الإرادة ، التي هي مفتاح استتمام الحظ وتحصيل حقّ الذات ، فمن يبحث عن هذا المصدر عليه أن يدفع في جميع مجرى الحياة بالتي هي أقوّم وأحسن ، لقوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم ) فصلت الآيتان – 34 و35″ ، وهذا لا يعدّ عجزًا وإنما هو غاية القوة والحشمة والكياسة ، لأن من ضوابط التعامل مع الناس الحاجة إلى بعدٍ أخلاقي مشمول بالعفو والتسامح بعيدًا عن كلّ صنوف الأحقاد والضغائن.

    نعم من مبادئ الرحمة أيضًا تحسين الخُلق مع الأهل والجيران وحبّ الخير لعموم الناس ، والعدل بينهم بالقسط ، كما في وصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) : “يا علي أحسن خُلقك مع أهلك وجيرانك ومن تعاشر وتصاحب من الناس تكتب عند الله في الدرجات العلى ، يا علي ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك تكن عادلاً في حكمك مقسطاً في عدلك محباً في أهل السماء مودودًا في صدور أهل الأرض احفظ وصيتي إن شاء الله تعالى”.

    فالرحمة بين الناس عزّة وكرامة ينشدها كل طالب لها ، فكيف لا يكون ذلك وقد وعد الله المتصفين بها في قوله تعالى: ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏ ) “سورة آل عمران الآيتان – 132- 134” فمحبّة الخير للناس من مبادئ الرحمة وهي أمر واجب في الشريعة الإسلامية ولازمة لصدق الإيمان وأثر العقيدة النقية ، ففي الحديث النبوي الشريف ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبك بين أصابعه” هذه هي مضامين الرحمة الصادقة وقد عبّر عنها أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة “ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا”.

    نسأل الله الواحد المستعان أن يوفقنا إلى حُسن القصد وأجمل العمل وصحّة الفهم وصواب القبول والزيادة في التقوى والسداد ، وأن يمُنَّ علينا بالحسنى ويجعلنا من أهل العفو والرحمة ولا يجعلنا من المُحقرين لعباده في أرضه ، امتثالًا لقول مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) “من حقر مؤمنًا مسكينًا أو غير مسكين ، لم يزل الله عزّ وجلّ حاقرًا له ماقتًا حتى يرجع عن محقرته إياه” ، اللهم واكتب ثواب هذا العمل البسيط خالصًا لوجهك ، واكتب لنا به حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة ، والصلاة والسلام على عبده نبيّ الرحمة محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار الميامين.

عن سيد كاظم الكرزكاني

شاهد أيضا

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج الج…

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *