الإثنين , أبريل 29 2024
أخبار عاجلة

الاعتذارُ مِن شِيَم الكبار

الاعتذارُ مِن شِيَم الكبار

 بقلم: السيد كاظم الكرزكاني

23/1/2018

    بسم الله والحمد لله الذي جعل المحبة بين المؤمنين وجعلهم إخوة متحابِّين ونهاهم عن التفرقة والخصام ، وجعل الاعتذار والتسامح  بينهم معراجًا وسُلمًّا  يرتقون به إلى عرش من فرض السلام ، وأفضل الصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وعلى آله الدرر بين الأنام وعلى أصحابه الأتقياء الصالحين ، صلاة زاكية لا ينقطع وصلها إلى يوم القيام ، أما بعد:.

    إنَّ الابتعاد عن اللغو صفةٌ من صفات أهل الصلاح واكتمال الخُلق الإنساني ، ولو أنَّ المرءَ دقَّق في ما يُشعل المجتمع ضجيجًا لراعه أنَّ السببَ في ذلك هو اللغو البعيد عن مبادئ الرُشد وقيم الأخلاق التي تُستمد من الوعي والفكر الرشيد ، لأنَّ من يستجمع أفعاله ويراجع فكره يجنح بهذا التأييد الفكري إلى تبصر النفس وترتيب الذهن للفرار من كلِّ بيئة صاخبة إلى ريف الهدوء والسكون ، ففي وصية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) “عليك بطولِ الصمت إلَّا من خير , فإنَّه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك” وبقدر تنزّه الإنسان عن اللغو تكون درجته عند الله أسمى وأرفع.

    الابتعاد عن اللغو مرقاةٌ للاستقامة ولجمُ اللسان مما لا شأن له به وعدم إقحام النفس عما يُسأل عنه ، كما ورد عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله) “مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” أي أنَّ الحديث الشريف يعطي الدلالة الواضحة لمراقبة النفس من أقوال وأفعال وباستحضار قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ” ق آية – 18″ فاللغو منشأه اللسان تلك الآلة التي تجلب الخير وتُبعد الشرّ، وتُمكّن الفكر كي يسترسل اللسان الكلام إما نفعًا وإما ضرًا ، واللسان هو المصحّح لسلوك الإنسان والمُكمّل لكلّ ما يتعلق بأمور الجوارح.

   لهذا كرّه الإسلام اللغو وأعتبره من الأمور التي تحطّ من قدر الإنسان ، وجعل التعبير الحسن وبما يجول في النفس من خواطر وأفكار حميدة من الأدب الرفيع الذي أخذ الله به على عموم أهل الأديان السماوية ، تصديقًا لقوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) “الإسراء آية – 17” لأجل ذلك فُرض على العباد حين المخاطبة إبداء القول بالخُلق والأدب النبيل وبكلامٍ حسنٍ مسموع يُبعد الشيطان ويُقرّب الأفعال إلى واقع الخير.

    الاعتذارُ من شيمِ الكبارِ وينمُّ عن القوّة في الشخصيّة ، والعقليّة الراشدة ، ولولم يكن للاعتذار من قيمة عالية لما أجَلَّهُ الأنبياء والرسل ، وأكبر شاهد على هذا قصة نبي الله موسى (عليه السلام) لمَّا وكز ذلك الرجل بعصاه فقتله ، فلم يُبرر القتل إلا بالاعتراف بالخطأ ، مُقدمًا الاعتذار طلبًا للمغفرة من الله حين قال: (هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) ” القصص آية – 15″.

    فمن اعتذر بعد الخطأ ارتقى إلى مصّاف العظماء ، ومن تحلَّى به كان له عاملًا مساعدًا على تقوية أواصر المحبَّة وتعزيز روابط الوئام بين بني الإنسان ، الاعتذار من الخُلق العظيم والثقافة الراقية التي تفتح آفاق التسامح وتُغلق أبواب الخصام ، وهو من النُبُل الكريمة التي تُعطي الأمل وتجدّد العلاقات البشريّة وتعززّها ، ومن صفاته الحميدة التي يجب أنْ يتمتّع بها كلُّ إنسان الاعتراف بالخطأ ، والاعتراف بالخطأ هو الأطيب للقلب والأجدر للعفو ، ولا يُنقِص من قدر الإنسان أيَّ شيء ، فالإنسان المتسامح في الله تراه أسعد قلبًا وأعظم أجرًا ، هو من عرف قيمة الدنيا لهذا تراه لا يُبالي بأخطاء الناس ، لذلك أكرمه الله وأثابه بالأجر، لقوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) الشورى آية – 40″ وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: “عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد إلا عزًّا.”

    الاعتذار مبدأ يُعبر عنه بسفير المشاعر بين القلوب البشرية ، خاصة حين ينبعث بكلِّ لباقة واحترام فيكون للقلوب كالبلسم المداوي ، وهو الثقة التامة التي تستشرف المحبَّة وتُوثق العلاقات المجتمعية ، ولإدراك هذه النعمة وهذا الموروث التربوي والثقافي بشكل أدق هناك حادثة وقعت في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) فلنقف عليها ولنأخذ منها الدرس والبُعد المعرفي.

    يُحكى أنَّ أبا ذر قال لبلال في يوم من الأيام ، ﺣﺘﻰ أنت يا ابن السوداء تخطئني؟.

    فقام بلال مدهوشًا غضبان أسِفًا ، وقال والله لأرفعنّك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فتغيَّر وجه الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا أبا ذر أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية ، فبكى أبا ذر وقال: يا رسول الله استغفر لي ، ثم خرج باكيًا من المسجد ، وأتى إلى بلال ووضع خده على التراب ، وقال والله يا بلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك ، فأنت الكريم ، وأنا المهان ، فأخذ بلال يبكي ، واقترب وقبَّل ذلك الخد ، وقال والله لا أطأ وجهًا سجد لله سجدة واحدة ، وتعانقا وتباكيا.

    هكذا هي الأخلاق التي تعلموها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن ما يؤسف له ونحن اليوم ندّعي من أمته (صلى الله عليه وآله) ورغم ما للاعتذار من قيمة عالية هناك من لا يُتقن فنَّها وما لها من شرف عظيم ، فترى البعض يرسب في امتحانها نتيجة ألَّا وعي بالعواقب التي تسبب الإرباك في الأمة ، فيصل بهم الحال إلى درجة الاستخفاف بحقوق ومشاعر الآخرين مبدين الإساءة المرات والمرات من دون إبداء أي تبريرٍ أو اعتذارٍ لمن أُسئ إليهم ، متناسين أنَّ الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان تغييره هي النفس التي إذا أحدثت خيرًا أحدثت تغييرًا في الحياة الإنسانية بأجمعها، لأنَّ ابتغاء الخير والتطلّع إلى معالي الشرف من عزِّة النفس وما شُرِّفت نفس ولا عُزّت إلا باكتساب الفضائل واجتناب الرذائل ، بهذا أشار الإمام زين العابدين (عليه السلام) “حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالناس وحسن القول فيهم” ، فالحياة الإنسانية بكلِّ مواقفها وتفاصيل معانيها ليست أكبر من الأخلاق التي أرادها الله للإنسان أنْ يكون بها عزيزًا كريمًا من خلال حُسن الكلام وجلائل الفعال ، لأن الكلمة الطيّبة أينما وقعت لاقت الترحاب ونفعت ، أما الكلمة غير الجديرة بالاهتمام والتي تصدر دون مبالاة لقيمة الآخرين هي التي لا تستطيع تحقيق أيّ نجاح للمجتمع ، بل تكون سببًا في تمزيق الصّف.

    بعد أنْ أدركنا ما للسان من منافع ومضار لا بدَّ من البحث عن الوسيلة التي تحدد طريقة التحكم به ، ولتعميق الإدراك فلنراجع ما ورد عن من أناروا للإنسانية طريقها المظلم وأرشدوها على النهج السليم والسلوك القويم والتي من خلالها على الإنسان أن يأتمر بأوامر عقله حين يُحكّمه ليكفّ عن أذى الآخرين ، فمن يتأدب بما أمر الله يُنجى نفسه من كلِّ منزلق ، أما إذا خالف ذلك فقد وضعها في زاوية الجهل والتخلف ، بهذا المفهوم عبَّر الإمام علي (عليه السلام) “اللسان معيار أرجحه العقل وأطاشه الجهل” وقوله (عليه السلام) “احبس لسانك قبل أن يُطيلَ حبسك ويردي نفسك، فلا شيء أولى بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرع إلى الجواب”.

    بهذه الأحاديث الشريفة نستلهم المعنى أنَّ مكانة الإنسان وعزَّة نفسه منبثقة من تربية ساحة الأخلاق التي تصل به نحو ساحة الكمال والرفعة وأنَّ الاعتراف بالأخطاء تربية ربَّانية يسير بها نحو ساحة أصحاب العقل والسماحة ، فعن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) “أعقل الناس أعذرهم للناس” وعنه (عليه السلام) “الإقرار اعتذار والإنكار إصرار” ، فعندما تسمو الأخلاق يرتقي الإنسان إلى المستوى الجدير به وما دون ذلك يُعد مما يُنافي القيم والأعراف ، وهو الهبوط والانحدار بالنفس عن العزّة والمكانة الرفيعة ، لقوله تبارك وتعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) “المنافقون آية – 8 ” فعزّة النفس وإبائها من أهم الفضائل العليا.

   هكذا كانت الرؤية حول مبادئ الاعتذار عند أهل البيت (عليهم السلام) الذين طبقوا مبادئه حسب ما نصّ عليها الإسلام ، والذي للأسف قد عجز عنه الكثير من الناس معتبرين أنه نوع من الضعف والمذلَّة ، متناسين ما لهذا البُعد المعرفي من آثار إيجابية وفعّالة على المجتمع ، فقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) “شافع الذنب إقراره وتوبته اعتذاره” وكما جاء عن مولانا الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) “لا تُعاجل الذنب بالعقوبة واجعل بينهما للاعتذار طريقًا”.

    من هنا ينبغي الإدراك أنَّ النفسَ عندما تتزودُ بالتقوى ويُفيضُ اللهُ عليها نورَ الوعِي تتولد لديها حالة من التمييز بين الصواب والخطأ ، فكلَّما احترم الإنسان مبادئ الاعتذار وأعتبرها إحدى مظاهر الأخلاق كوَّنت في نفسه حالة حسيَّة تطفئ مشاعر الحقد والكراهية وتذوب من داخله كلُّ النزعات العدوانية ، وكلَّما أدرك واعترف بالخطأ غابت عنه شحنات الحقد والانتقام ونتجت بداخله روح المودَّة التي تحمي المجتمع من شرور الخصومات ، فالاعتذار منزلة لا يصل إليها إلا من جاهد نفسه في ذات الله وذوّقها حلاوة الإيمان وطعم اليقين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) “الأنفال آية – 29 ، الاعتذار نهج وسلوك يكشف عن الرجاحة لتقدير الأمور، لهذا لا يقدّره إلّا كلُّ من دفعته نفسه نحو التقوى والإيمان وجاهدها نيلًا للأجر والثواب (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم) “فُصٍّلت آية – 34” أي إذا قُدمت الحسنة إلى المسيء قادت إلى التآلف والمحبة فيصبح المخطئ ولي حميم أي قريب من الإحسان.

    بعد كلٍ ما تقدم من تعريف لهذه النعمة وهذا الموروث التربوي والثقافي ، نرى هناك من حُرم منها نتيجة – كما تقدم – ألَّا وعي ، ولا يُحرم من هذه النعمة إلَّا من لا يُتقن فنَّها وفضلها والتي من مبادئها أنَّها ترفع من مكانة من يتحلى بها احترامًا واجلالًا بين الناس ، فليس الإنسان العاقل هو من يعرف الخير والشّر ، وإنّما إذا رأى الخير اتبعه وإذا رأى الشرَّ اجتنبه ، وليس الفخرُ أنْ تقهرَ قويًا ، بل الفخرُ أنْ تُنصفَ ضعيفًا ، أجل إنَّ الإنسان الملتزم والعامل بفقه الاعتذار هو الورع الذي يرشد الناس نحو الخير والتراحم بدلًا من الازدراء والاحتقار والاستخفاف بمشاعرهم ، هو الإنسان الملتزم الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) من خلال حديثه الشريف “اقبل اعذار الناس تستمتع بإخائهم وألقهم بالبشر تمت أضغانهم”.

    من لا يتمنى من الإنسانية أن يشرق نور الاعتذار ممزوجًا بخيوط الحكمة والرحابة لرفعة الأمة وازدهارها وإعلاء راية المحبّة بتأشيرات ترسم الكلمة الرائدة التي تُشرفها وتجمعها على مائدة الخير والصلاح ، من لا يتمنى أن تُستشعر هذه النعمة بكل صدق لتصنع الدواء الذي يداوي الجراح ويمحوها ، وأن تُغرس بذور المحبة والتسامح وتُسقى بماء حسن التعامل ، وما أجمل الحياة حين تتصافى القلوب وتتناسى العيوب وتتجمل النفوس بحسن الأسلوب ويدعوا الناس لبعضهم البعض بالعفو والغفران ، وما أجمل الأفعال حين يندم الإنسان على كلِّ فعل قبيح صدر منه قبل أنْ يتحسّر في يوم لا ينفع فيه الندم ، وما أجمل المشاعر حين تُعمق بالحبِّ كسبًا للتعاطف والمعايشة جنبًا إلى جنب مكلَّلة بالحبِّ والوئام ، واستماع الناس لبعضهم البعض ، حلًا لقضاياهم ومشاكلهم الحياتية بدورٍ من الإحساس والاهتمام والتقدير.

    نسأل الله أنْ يجمعَ شمل هذه الأمة ، وأنْ يجعلَ مسيرها مسيرَ خيرٍ ومحبّة وأنْ يُنير طريقها بنوره الذي أنار به السموات والأرض ، ورزقنا وإياكم نورَ المحبةِ وحلاوةَ الأخوّةِ التي تحفظ وتصون نسيجَ هذه الأمة ومصالحها العامة ، والابتعاد عن كلِّ عابث يريد أنْ يؤزِّم علاقاتها وينشر الفتن والعصبيات بين مكوناتها ووحدتها ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على محمد وآله الطاهرين وأصحابه الأبرار الميامين.

عن سيد كاظم الكرزكاني

شاهد أيضا

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج الج…

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *