الإثنين , أبريل 29 2024
أخبار عاجلة

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف

السيد كاظم الكرزكاني

9/4/2018

    بسم الله الواحد الديان ، ربّ القدرة والعظمة والشأن ، شديد القوة والموجود في كلّ مكان ، الذى أنار الوجود بنور الهدي والبيان ، وثبّت حبّه في قلوب العاشقين والمغرمين بالحجّة والبلاغة والبيان ، الباقي بغير مدّة ولا زمان ، جامع الخلائق على الحكم والعدل والإحسان ، وأزكى الصلاة وأتمّ السلام على محمد وآله الهداة المهديين والولاة المرضيين الشافعين يوم الدين أصحاب الحجّة والبراهين وعلى أصحابه المرضيين الأمناء على حفظ رسالته حتى قيام يوم الدين ، وبعد.

    إنَّ الإسلامَ منح الإنسانية كلّ ما تحتاجه من القيم التي مصدرها الشريعة ليكون لها قوّة الإلزام والقدرة على التأثير في الحياة ، والمتأمل لذلك يجد أنَّ هناك ثروة هائلة من القيم الخلقية والجمالية مفصّلة بكلّ دقّة ومحدّدة بكلّ إتقان وشمولية سواء في القرآن أو في السنّة المطهّرة ، والتي منها قيمة العفو، إذ يقول الحقّ تبارك وتعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ” الأعراف آية – 199 – 200″ .

    من هذا المفهوم القرآني والسيرة النبوّية الحسنة عالج الإسلام أدواء النفس البشرية ، كي تكون الدافع إلى السكون وميل القلوب لبعضها البعض ، معتبرًا العفو مبدأ ملزمًا للإحسان ، وأنّ الإغماض عن حقّ الانتقام من أبلغ المصاديق السليمة النقيّة التي تعزّز حبَّ الخير لعموم الناس ، لقوله: (صلى الله عليه وآله) “لا يؤمنُ أحدُكُم حتى يحبَّ لأخيهِ ما يحبّ لنفسِه” بمعنى لا يكتمل إيمان الإنسان إلا بالقلب السليم الداعي إلى الهداية والخُلق ، فكلّما اكتمل الخُلق الإنساني بمستواه الرفيع ، كلّما وضعه في أعلى مراتب القمم ، وهي قيمة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الفكر والسلوك وتهذيب النفس ، فالإنسان المتسامح هو الإنسان المُحسن الذي تشعُّ نفسُه بالعفو والرحمة ونداوة الطبع القادر على العطاء للارتقاء بالإنسانية إلى أرحب الآفاق وأسماها ، لهذا يقول مولانا الإمام الهادي (عليه السلام) ” منْ جمعَ لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك” ، وكما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) “لكلّ شيءٍ شيءٌ يستريح إليه ، وإن المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله”.

    وبصدد تجميع هذه الأصول التي تقوم عليها ركائز المحبة والتي تُعتبر أمرًا لازمًا لأصحاب العقيدة ، يأتي منهج العفو المستمدّ من الوحدانية الإلهية والمنسجم معها دون أي تقصير أو تفريط ،  ولما يحمله العفو من آثار فرضتها الشريعة لتزكية النفس وإنابتها نحو الخالق وما للمجتمع من حقوق ، فقد ميّز الإسلام العفو ، فكلما تفوّق به الإنسان جماليًا وذوقيًا ومعنويًا أدى إلى التواضع وعدم الغرور ، حيث يقول تبارك وتعالى: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت آية 34″ ، فالعفو والصفح والحلم من الصفات الكريمة والخصال الحميدة التي يجب على المسلم التحلّي بها ، والتي تجلب المحبة بين القلوب، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) ” ثلاثٌ يوجبنّ المحبة الدين والتواضع والسخاء”.

    ومن منطلق السليقة الإسلامية لعموم المخلوقات الكونية التي أوجدها الله في هذا الكون لم تكن نتيجة تطورات أو متغيرات وقعت صدفة أو أنها خُلقت عبثٌا دون غاية أو هدف ، وإنما قُصد بها لترتيب مجرى الطبيعة وأن تكون ميدانًا للنشاط الحياتي ليستخدم الإنسان كلّ طاقاته وإمكانياته تسخيرًا للمنفعة التي ستؤدي في النهاية إلى تحقيق صدق العبادة للموجد لها والقيام بتنظيم أوامره ، فالإنسان المؤمن ينطلق من هذا المبدأ لقوله تعالى: ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) “النساء آية – 80”.

    فالإسلام حين شرّع التشريعات كان يُريد بها أن تؤدي إلى التوازن والاعتدال ليجعل من العقيدة وحدة متناسقة مترابطة دون انفصام ، وأنْ تصبَّ في مصبٍّ واحد ، وهذا هو المنهج التشريعي الذي لا مثيل له في القوانين الوضعية ، فكلّما كان الإنسان قويًا بإيمانه ومسلكه العملي الصالح ، كان الأقرب للخير ، والأخذ بيده لحلّ كلّ النزاعات والخلافات بنحوٍ ما قُدر من الكمال الفكري ، فأسعد الناس في الحياة هم العاملون المخلصون بالرحمة والرأفة من دون أيّ فوراق شخصية ، فمهما عظمت بالإنسان من أمور أخطاء الآخرين  عليه أنْ لا يجعلها تتمكّن من قلبه حقدًا وحنقًا، بل يجعل قلبه ينبض حبًّا وارتباطًا بهم ، حيث يقول: (صلى الله عليه وآله) “أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل”

    هذه هي الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الإنسان ، وأن يكون متسامحًا مع نفسه وأبناء دينه ووطنه ومحيطه الاجتماعي ، حتى مع نظرائه في الخليقة من باقي الأديان الأخرى ، ليظهر بأخلاقه الوجه الحقيقي للإسلام الذي ضمَّ تحت لواء دولته جميع الأعراق والأديان والمذاهب دون طمسٍ أو إجحافٍ لحقّ أحد ، كما ينبغي الفهم أنَّ التخاصم والانتقام ليست من مبادئ وقيم الإسلام ، وفي حال الاختلاف والتباين في الأمور يجب حلّها بالحسنى وبما فرض الله وأمر، ومن خلال قول المولى ووصيته لنبيه الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه الكريم (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ” النحل آية 125″.

   نعم بالحلم والصفات الكريمة والنفوس الشامخة والهمم الروحية العالية يكون الإحسان الكمالي هو المبدأ الذي تُحلّ به كلّ المآزق ويُدفع به نحو التآخي والاستقرار، هكذا أمر الإسلام بضرورة التمسك بالهدى والابتعاد عن سبل الضلال ، وأن يكون العفو منبعه الفهم والإدراك لكسب قدرة العصمة والملكة المعرفية لمواجهة نزوات النفس ، فترسيخ مبدأ العفو جوهره المعتقد الإيماني وأنّه تكليف شرعي سماوي قبل أنْ يكون تكليف تشريفي وجداني لمن أحسن الله سريرته ، ومن منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

   والصبر عند الغضب ، والحلم أمام الجهل ، والعفو حال الإساءة ، كلّها أخلاق عظيمة جاءت لتؤكد تقويم السلوك الإنساني وتوظيفه لتصحيح طريق الخطأ جودًا وتكرمًا ، وبنتائج إيجابية ، وفي هذا المضمون يقول الإمام علي (عليه السلام) “كن عفوّا في قدرتك ، جوادًا في عسرتك ، مؤثرًا مع فاقتك ، يكمل لك الفضل” وقال (عليه السلام) “عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو” فالعفو عند القدرة من أبرز مفاهيم العصمة الوجدانية ، التي تحتّم خضوع الطرف المعادي إلى مكانة الولي الحميم لقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) “فصلت آية 34” ، فحين تُدفع السيئة بالإحسان يتحول الخصام إلى حبّ ومودة ووئام ويكون العفو أمانًا في يوم الحسرة والندامة ، لهذا ورد عنه (صلى الله عليه وآله) “من عفا عند القدرة عفا الله عنه يوم العسرة” وقال: (صلى الله عليه وآله) “من عفا عند قدرةٍ عفا الله عنه يوم العثرة”.

     بهذه الموازين أتمّت الشريعة المقدسة مبادئ العفو ومطالبة النفس بالتخلص من رواسب الأنماط الخاطئة وتحلّيها بالسلوكيات والصفات الكريمة التي تُهيئ لها الانتصار على النفس بنحوٍ من الصفح والأثر الطيّب ، فكلّما ترفّع الإنسان بسلوكه الحسن كان لله أقرب ، وهذا التأكيد يأتي ضمن قوله تبارك وتعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ” الأنفال آية – 46″ ، وكلّما استقامت سيكولوجية الإنسان بالصبر الجميل وأسقط حقّه قربة لله تأسست أواصر الرحمة ووشائجها التي أمر الله بها أنْ توصل ، وكلّما تغاضى الإنسان عن أخطاء الآخرين استدامت العلاقة وازداد انسجامها ، وكذلك كلّما تغلّب الإنسان على أهوائه وحاربها خلّصته من الهلكة ، قال مولانا أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) “اغلبوا أهواءكم وحاربوها، فإنها إن تقيّدكم توردكم من الهلكة أبعد غاية”.

  هكذا وضّح الإسلام القيم الخلقيّة خير توضيح وبجوانبها الإيجابية ، فلا عصبية مقيتة ولا تحزّبًا بغيضًا ولا صفوٌ إلا وله أجر ، فكل ما جاء من توضيحٍ لمفهوم العفو ، ما هو إلا لأجل أن يعيش الإنسان جمال الحياة كريمًا عزيزًا ، لأنّ النفس الإنسانية مفطورة في الأصل على حبّ الخير ، وكلّما قُهرت طاعةًً لله ازداد الإنسان من خلالها عزة وكرامة ، فعزّة النفس ليست باللسان اللاذع ولا بالقلب المشحون حنقًا ولا بطبع التكبر على الآخرين ، وإنّما بالابتعاد عن كلّ ما من شأنه أنْ يقلّل من قيمتها في المجتمع.

   وبمقتضى الإيمان المستقر في النفس البشرية يكون العفو هو العاصم عن كلّ الدنايا والدافع إلى الفضائل والمكرمات ، فصاحب الإيمان القوي هو الذي يتحلى بالعفو المرتبط بمبادئ الرحمة ، تلك الصفة التي جعلها الله كمالًا في الطبيعة الإنسانية لتخفيف معاناة الخلق ووسيلة لمحو الأخطاء وإزالتها ، وطريقًا تُسهّل على الإنسان سلوك طريق الهداية كلّما تلبست النفس بالقسوة والغلظة ، وهذا هو غاية الكمال.

   هدانا الله وإيّاكم لما يحبّ ويرضى وأنْ يجعلنا من أهل العفو والرحمة ، وأنْ نكون من الساعين لارتباط المجتمع ، ونشر راية الحبّ والاحترام بين الناس إنّه ولي التوفيق ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق وأشرفهم محمد وآله الطاهرين وأصحابه الأخيار المتقين الراشدين.

عن سيد كاظم الكرزكاني

شاهد أيضا

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج الج…

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *