الأحد , أبريل 28 2024
أخبار عاجلة

مَا أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسعُ مِن الصَّبرِ

مَا أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسعُ مِن الصَّبرِ

بقلـم: السـيد كاظـم الكرزكاني

23/4/2018

    بسم الله وسبحان الواحد القهَّار مكوُّر الليل على النَّهار ، ومكوُّر النَّهار على الليل ، والذي يعلم عدد أوراق الأشجار وقطر المياه والأمطار، الإله الذي لا شريك له ، والواحد الذي لا ندَّ له ، والذي لا يعزب عن علمه شيء ولا يخرج عن سلطانه شيء ، يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء بحكمته البالغة ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الذي بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة إلى الأمة بعد أن تركها لتكون خير أمة ، فلا يزيغ عنها من زاغ إلا هلك وهوى ، والصلاة والسلام عليه وعلى آله الطاهرين الذين بهم وجبت على العباد مودَّتهم ، وعلى صحبه الميامين الذين تذوَّقوا حلاوة الصبر واليقين.

    من اليقين الثابت أنَّ الإنسان خلقه الله وجعله أسمى مخلوقاته وأفضلها مجدًا وشرفًا ، وهي حقيقة ثابتة بدليلين ، الأول بخبر يقيني صادق ، والثاني ببرهان عقليٌ فكري ، وهو قوله المبارك: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ” الإسراء آية – 70″ وهذا التثبيت واضح المعني ، أنَّ الله خلق الإنسان وشرَّفه ، وأكمل له من خلال هذا التشريف كلَّ هيئاته ومظاهره ، وهو منطق قرآني واضح البيان والبلاغة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) “التين آية – 4” أي خلقه في أحسن خلقٍ وأكمل صورة ، وهذا ما يسمى بالخبر اليقيني الصادق ، أمَّا مِنْ ناحية البرهان العقليِّ الفكري ، أنَّه خلقه وأعطاه ما يمتاز به على سائر المخلوقات من ناحية القوة الفكرية المدركة لجميع حقائق ودقائق الأمور ، لأنَّ العقل هو مفتاح التسخير لجميع مظاهر الحياة وجعلها بسبب قوة عقله تحت سلطانه وبسطة يده ، مما يجعله جديرًا لسبر أغوارها سعيًا لعمل الخير النافع ، والاستفادة من طيبات الحياة وجمال الصنائع فيها.

    أما إذا ذهب الإنسان نحو طريق اليأس والانهزام ، ونحو ما يزعزع الثقة النفسية وصلابتها ، أصبح في ركنٍ يقعده عن القدرة لمواجهة المشاكل والتغلّب على التعقيدات والصعوبات التي تواجهه ، لهذا حثَّ الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وأرشد الأمة إلى فضيلة الصَّبر بقوله: “مَا أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسعُ مِن الصَّبرِ” ، بهذا المعنى يكون الصَّبر دليل على الاطمئنان النفسي والخلقي ، كما أنه يكون صمَّام الأمان ورمز القدرة على مواجهة الشدائد والمصائب ، فقد تكون كثرة المصائب التي يُبتلى بها الإنسان علامات ترشّحه للخير ، أو لما يُراد له من كرامات مكنونة ، تكون سببًا لمصادرة ما تستهويه النفس من متاع الدنيا والركون إليها.

    الصَّبر حسب ما وضحته الشريعة هو قرين التواصي بالحقِّ الذي يجعل الإنسان دائمًا قادرًا على تحمّل البلايا ومقاومة جميع المحن التي تحلّ به ، وهذا مصداق الحديث النبوي الشريف: “إنَّ العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو ماله أو في ولده ثم صبَّره على ذلك حتى يبلّغَهُ المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ” كما أنَّه مفتاح الرضا النفسي لمحاكاة النوازع النفسية بحكمة وشكيمة كي لا تقع في المعاصي ، نعم الصَّبر منزلته عظيمة وله روحية العفاف التي تقي وتحمي الإنسان من أوضار الخطايا الدنيوية ووكر سيئاتها ، الصَّبر هو السدُّ المنيع للإدبار بالنفس عن اقتراف المآثم وشهوات النفس ، وهذا لا يتحقق إلا حين تستشعر النفس بالأثر اليقيني الجازم وبالاتجاه الحازم رضًا وطاعة لله وهو من أعظم أنواع الصَّبر.

    ففي المفهوم الإدراكي ينقسم الصَّبر إلى عدَّة أنواع ، كما حدثه الإمام علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) “الصّبر ثَلَاثٌ: فَصبرٌ عَلَى المُصِيبة ، وصبرٌ على الطاعَة ، وصبرٌ عنِ المعصية، فَمن صبَرَ على المُصيبَة حَتى يَرُدَّها بِحُسنِ عَزائِها كتَبَ الله لَهُ ثلَاثَمائَةِ درجَةٍ بين الدَّرجَةِ إِلى الدَّرجَةِ كما بينَ السَّماءِ إِلى الأرضِ ، ومَن صبَر على الطَّاعَةِ كتَب اللهُ لهُ سِتَّمائَةِ درجَةٍ ، ما بَين الدَّرجَةِ إِلى الدَّرجَة كما بَينَ تُخُومِ الأَرضِ إِلى مُنتَهى العَرشِ ، ومن صبَرَ عَنِ المعصِيةِ كتَب الله لهُ تِسعمِائَةِ درجة ، ما بين الدَّرجةِ إلى الدَّرجةِ كما بين تُخومِ الأرضِ إِلى مُنتَهَى العَرش مرَّتَين” حديث بليغ يُشير إلى أكبر دلالة بأن الزمن متلبس بحركة الإنسان وسكون وجدانها ، فإن لم يصابرها اكتوى بنار الخوف والرعب ، من هنا يتوّجب على المرء الاستعانة بالصبر الذي لا يتحصل إلا بالطاعة والذي مرجعه ودافعه الإسلام ونظامه الملزم الالتزام بها والمداومة عليها حتى وإنْ وصلت إلى درجة المشقة والمعاناة ، لقوله تبارك وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) “البقرة آية – 45” ، كما وعليه أن لا يُثبِّط همَّة نفسه باليأس والقنوط ، وإنما بدفعها نحو سبيل الهدى وبثّ روح اليقين والطمأنينة وبإسناد من الله الولي بالأمر ، وبتأييد من المحيط المجتمعي الذي يخالطه ، إذ يقول تبارك وتعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) “العصر آية – 3”.

    والصَّبر تعريفًا أنَّ الله جعل للحياة قوانينها التي يجب أن تؤدى لا نقصًا ولا زيادة ، وجعل من خلال هذه القوانين بسطة اليد والسعة في الرزق ، ولكن أحيانًا أمام ما قدَّره الله يرسب الإنسان ويغرق في أوحال الأفكار بتذمّر واعتراض ، أما من يكون محتسبًا لكلِّ بلاء ، فينقلب الحال ويصبح في حال القوة والصلابة والتوازن من دون أن يسقطه أيُّ بلاء ، وتكون قوة إيمانه هي القوة الدافعة لتجديد حركته احتسابًا لتعويض ما تمَّ من الفقد والخسران.

    فتذوق حلاوة الإيمان تجعل من الإنسان في حال التهيئة والتحضير لكلِّ ما يحلُّ به احتسابًا ورجاءً  للمثوبة ، وأكبر تأكيد على ذلك ما حكاه القرآن الكريم في قصة نبي الله أيوب (عليه السلام) الذي ضُرب به أعلى مثل في الصَّبر، حين أُبتلي بكلِّ ما لديه من حرق للأموال ، وفتكٍ بالإبل والأغنام ، وخرابٍ للأرض والمزارع ، وقتل للأولاد والذريّة ، وبرغم كلِّ ما حلَّ به إلا أنه لم يُبدِ الاعتراض على الله تبارك وتعالى ، بل كان دائم القول: “لله ما أعطى ولله ما أخذ فهو مالك الملك وله الحمد على كلِّ حال” فكلّما حلَّ به من بلاء قابله بالصَّبر، لهذا وصفه الله بالقول: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) “سورة ص آية – 44” ، وكذلك في قصة نبيّ الله يوسف (عليه السلام) وما لاقاه من أنواع البلاء وشدائد المحن ، من ظلم الأخوة وحسدهم له ، وفراق الأب لسنين طويلة حتى ابيضت عيناه عليه ، وكذلك مرارة السجن ، لذلك اعتُبرت قصته بأحسن القصص ، لما تضمَّنته من نماذج رائعة أعطت الكثير من العظات والعبر ، واتسمت بملامح الإنسانية الصادقة ، فمن من البشَر في أيِّ زمان ومكان يكون بهذا المصداق القرآني؟ قصة تضمنت وفصَّلت كلَّ ما لاقاه من أنواع البلاء وضروب المحن ، كلُّ ذلك لأجل أن يُثبت على العقيدة ويسير في سبيل المبدأ الراسخ ، وهذا ما صوَّره القول القرآني: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) “يوسف آية – 38” ، أيْ أنَّه بهذا الابتلاء ، جعله لأجل الامتثال لأمر الله واتباع دينه والإقرار بالألُوهية والعبادة له وحده ، وليس لأجل اتباع أهل الكفر والإلحاد ، هكذا هي الحياة وما تفرضه من أسباب ، وما حكته القصتان إلا كي تَقرَّ بهما العيون ، وتسكن بهما القلوب وتطمئن بهما النفوس ، فلو قارن الإنسان بما جرى على هذين النبيين العظيمين لسجد لله شكرًا وتعظيمًا ، فكلما تذوَّق القلب حلاوة الإيمان احتسب وشكر.

    ومن مميزات الصَّبر معرفة الإنسان لطريق الحقّ المستقيم الذي يُنجيه من كلِّ المخاطر ، فكلَّما توسع الإيمان الداخلي بالله امتثل الإنسان للأوامر والطاعات التي امره الله بها ، وتكونت لديه الراحة النفسية استعدادًا لتقبّل المصاعب وعواقبها ، وفي هذا يقول الحديث النبوي الشريف: “إنَّ الصَّبرَ نصفُ الإيمان” وما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: “الصَّبر أعونُ شيء على الدهر” وفي حديث آخر قال: (عليه السلام) “بالصَّبر تُدرك معالي الأمور” فهذه الأحاديث الشريفة تُعطي التأكيد بضرورة الصَّبر الذي يكون قادرًا على حبس النفس وإلزامها على تحمل المصاعب باختلاف أنواعها سواء كانت جسدية أو عبادية أو غيرها من أمور هذه الدنيا الزائلة ، وكذلك القدرة على ضبطها عن القيام بعمل المعاصي والفواحش ما بطن منها وما ظهر ، أي ضبطها عن كلِّ فعل لا يُرضي الله تبارك وتعالى ، نيلًا لإدراك معالي الأمور.

    ولكون الصَّبر هو المعين على تحمل البلاء ، أُعطي صفة الهبة والمنحة الحسنة التي تتسق مع سنن الكون ونظمه التشريعية ، فكلَّما كثرت بالإنسان المصائب ترشح لعلامات الخير واُعطي من الأجر العظيم دنيا وآخرة ، كما ورد في العديد من الأدلة القرآنية وفي السنَّة النبوية الشريفة ، التي جعلت من الصَّبر تهذيبًا للنفس وترويضًا لها ، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الكهف آية – 28″.

    فالبلاء في الدنيا للإنسان المؤمن كفَّارة وتطهير، رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: “إنَّ لله عزّ وجلّ من خلقه عبادًا, ما من بلية تنزل من السماء, أو تقتير في الرزق إلا صرفه إليهم , ولا عافية أو سعة في الرزق إلا صرفه عنهم ولو أنّ نور أحدهم قسّم بين أهل الأرض جميعاً لاكتفوا به” فعلى المرء أن لا يُضيع الفرص عليه ، حيث يقول: (صلى الله عليه وآله) “من فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه فإنَّه لا يدري متى يُغلق عنه” وعن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) قال: “خير الدنيا والآخرة في خمس خصال: غنى النفس ، وكفّ الأذى ، وكسب الحلال ، ولباس التقوى ، والثقة بالله على كلِّ حال” وهذا الامتحان كما يؤيّده الحقُّ تبارك وتعالى على عبده أن يتجه نحو إنفاذ أمره ، فإذا علم ذلك من نيته تولى أمره وأعانه ، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) “محمد آية – 17” من دون أي تبرمٍ أو سأم.

    وقد جعلت الحكمة الإلهية الأزلية الصَّبر والتصبر على الإنسان رأفة وبركة ، فلو تعمَّق الإنسان اللبيب في فرض الغيبة لخاتم الأوصياء والأئمة الأطهار (عجَّل الله فرجه الشريف) لوجد أن الحكمة من ذلك أن يكون الإنسان حاملًا للشعور الوجداني الذي يحركه لنظرة التطلع ، وتطهير الذات من اليأس والقنوط ، وأن يعيش صحوة الرجاء وانتظار الفرج بتفاؤلٍ دائم يرفض المستحيل ، وأن يتخطى بالانتظار كلَّ عقبة كأداء وصولُا للمبتغى الإلهي بنشوة أملٍ منشود ، لأن الحياة الإنسانية لا تستقيم بدون نظرة الأمل الصادقة ، والانتظار الذي يحمل التفاؤل والأمر المقسوم الذي يُبنى من خلاله الطموح ويُحقِق كلّ إنجاز عظيم ، وهو تقدير يُعطي الإشارة أنَّ الإنسان المؤمن بخلقته الفطرية الوجدانية عليه أنْ يكتنز بداخله وبكلِّ شغف للحظة الظهور ، وبأملٍ يشحذ الهمم تلبية لنداء ظهور المُخَلِّص الموعود لتحقيق كلّ الرغبات بكلِّ دافعية ، على المرء ضرورة الإدراك أنَّ تمكين شعور الأمل في النفس لا يتحقق إلا من خلال التحلي بالصَّبر ، فما من بلاء إلا ولله فيه حكمة ، ويتأكد ذلك من خلال حديث مولانا الإمام العسكري (عليه السلام) بقوله: “ما من بليّة إلا ولله فيها نعمة تُحيط بها“.

    فما أحوج أمتنا أمة الخير للعمل الصادق والصالح المقرون بأمل ظهور القائم لينتشلها من سبات الغفوة والغفلة لمواكبة مسيرة تحضرها ورقيها وازدهارها وأن تكون موفقة لاتباع النهج المستقيم ، وأن تستشعر الرسوخ الثابت لمبدأ وعقيدة الانتظار، وأن تكون كلَّ نية صادرة عن إرادة ومعرفة تامة مصدرها الأوحد الإرادة الإلهية المطلقة ، لهذا يكون الأمل للمنتظر الموعود هو الشعلة التي تُضيئ ظلمات اليأس في النفوس ، وتكون شجرة الصَّبر هي التي تثمر العطاء بابتسامة تُحلِّي الشفاه وتبدِّد دياجير ظلمة الهموم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق محمد المصطفى الصادق الأمين وعلى آله السادات المطهّرين ، وأصحابه الراشدين المرضيين.

عن سيد كاظم الكرزكاني

شاهد أيضا

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج الج…

نبارك لابناء القرية صادق فاضل و عباس فاضل و محمد حسين عقد قرانهم خلال الزواج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *